[قواعد في التعامل مع الشدائد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد
فإن الابتلاء سنة ماضية،وطبيعة لازمة لكل مخلوق في هذه الدنيا، والإنسان بخاصة،
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]
ويقول سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2].
والناس يعرفون هذه المسألة نظرياً، ولو سألت كل إنسان لأخبرك بهذه الحقيقة، ولكن تعالى وانظر إليهم عند وقوع الابتلاء،
فسترى أن كثيراً من الناس يرسب في هذا الاختبار،والسبب الأكبر في هذا أن معرفة هؤلاء لهذه الحقيقة كانت معرفة سطحية،لا تتجاوز حدّ المعلومة،
ولم تتغلغل إلى القلب والعقل..
ومن أمارات هذا الرسوب: أن البعض - وهو في الكفار أكثر - يقابل ذلك الابتلاء بالانتحار..
وآخر تستولي عليه الهموم، وتجثم على صدره الأمراض النفسية..
وثالث تؤثر عليه هذه الابتلاءات والمصائب فتقعده عما يجب أن يكون عليه..
ورابع يلبس نظارة سوداء، فتستولي عليه عقدة التشاؤم..
وقليل من الناس من يتعامل مع هذه الابتلاءات وفق المنهج الشرعي،الذي يكفل لصاحبه ـ بإذن الله ـ
ـ التكيف مع هذه الابتلاءات،وتلقيها بشكل يخفف من وطأتها،وأثرها
وإذا ذكر الابتلاء.. فإننا لا نحصره في مصيبة مال.. فمصائب المال قد تهون عند مصائب أخرى..
بل نريد ذلك من صورا من الابتلاء كثيرة.. فكم من مبتلى بولد عاق.. أو أب شقي.. أم زوجة عصية،أو زوج لا يخاف الله..
كم من مبتلى بشيء من الأمراض العضوية والنفسية.. قد يبتلى المرء فيتهم في عرضه ـ
كما وقع للصديقة رضي الله عنه ـ إلى غير ذلك من أنواع البلاء.. فكيف نتعامل مع هذا الابتلاء،وتلك الشدائد؟!
إخوة الإسلام:
ثمة قواعد في تلقي الابتلاءات والشدائد،نشير إليها باختصار، لعلها تزيل الغشاوة عن البعض، وتنير الطريق في كيفية التعامل معها،
[القاعدة الاولى ]
لست وحدك، فمن ترى من الناس - مسلمهم كافرهم - لا يسلم أحد منهم من الابتلاء -
كما تقدم - ولو سلم أحد منهم من ذلك لكان أولى الناس به: الأنبياء والمرسلون - صلوات الله وسلامه عليهم -
قال سعد رضي الله عنه: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَي النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ؛ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ،
فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)) رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح.
ومعرفتك بأن غيرك يبتلى مما يسليك.. ألم تسمع ماذا قالت الخنساء؟!
وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي
وَما يَبكونَ مِثلَ أَخي وَلَكِن أُعَزّي النَفسَ عَنهُ بِالتَأَسّي
إن الابتلاءات تصيب المؤمن والكافر والفاجر،ولكن الفرق هو في طريقة النظرة لهذه الابتلاءات،
فالمؤمن ينظر لها نظرة أخرى، فهو يصبر عليها، ويحتسب الأجر،وينتظر الثواب من ربه - إذا هو صبر واحتسب -.
أنه لا يكاد توجد مصيبة إلا ويوجد من أصيب بأعظم منها...[تحتاج ترتيب وشرح أكثر].
[القاعدة الثانية ]
تذكر جيداً أن الله تعالى لا يقدر شيئاً إلا لحكمة بالغة، وعاها من وعاها،وجهلها من جهلها.
وكم في المحن من منح،وكم في المصائب من ألطاف؟!
كم من شارد عن ربه،يبتليه مولاه بحادث،فيكون الحادث سبباً في توبته ورجوعه لمولاه!
كم من حادث أنجى من حادث أكبر منه.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
[القاعدة الثالثة ]
تيقن أن جالب النفع هو الله،ودافع الضر هو الله،وأن ما يقع لا يخفى عليه، بل كله تحت عينه،
وأن رحمته سبقت غضبه، وأن الله أرحم بعباده من أمهاتهم اللائي ولدنهم، بل من أنفسهم التي يحملونها،
ولكن من وراء عدم الإجابة المباشرة حكمٌ وأسرار تعجز قلوب البشر وعقولهم عن إدراكها.
وهذا كله يدعوك ؛ لأن تعلق قلبك بالله وحده.. ترجوه.. تخبت له.. تنطرح بين يديه..
[القاعدة الرابعة ]
تذكر جيداً وصية النبي لابن عباس ـ كما هي وصيةٌ للأمة كلها ـ: ((أنّ ما أصابك لم يكنْ لِيخطِئك وما أخطأك لمْ يكنْ ليصيبك)) فلم الجزع؟! ولم التسخط؟!
ثم تأمل.. ماذا جلب الجزع والقلق على أهله؟! هل صلحت أحوالهم؟! هل رد قلقهم ما كتب عليهم؟! أبداً والله... بل خسروا كثيراً..
[القاعدة الخامسة ]
اعرف حقيقة الدنيا تسترح.. والعامة يقولون كلمة جيدة: ما عليها مستريح !!
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ
وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيل فَإِنَّما تَبني الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ
فمن عرف حقيقة الدنيا،استراح،ولم يستغرب شيئاً..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لوْ أنَّ الدنيا تساوي عند اللهِ جناح بعوضةِ، ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ))
إنّ الدنيا عند اللهِ تعالى أهونُ من جناحِ البعوضةِ، وهذه حقيقةُ قيمتِها ووزنِها، فلِم الجزعُ والهلعُ عليها ومن أجلهِا؟!
إليك مثلاً من سير القوم الذين عرفوا حقيقة الدنيا..
[القاعدة السادسة ]
تذكر ـ أيها المبتلى ـ أنَّ الفرج بعد الكربِ سنَّةٌ ماضيةٌ وقضيةٌ مُسلَّمةٌ، كالليل بعد الليلِ، لا شكَّ فيه ولا ريب،
فما عُرِفَ أن كربةً استحكمت استحكاماً لا فرج معه،بل لابد من فرج: إما فرج حسي، أو فرج معنوي.
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب
[ القاعدة السابعة ]
أحسن الظن بربك، فإن هذه عبادة بذاتها:
أحسن الظن برب عوّدك *** حسناً أمسِ،وسوّى أودك
إن رباً كان يكفيك الذي *** كان بالأمس،سيكفيك غدك
[ القاعدة الثامنة ]
تذكر دائماً أن اختيار الله خيرٌ من اختيارك لنفسك، هذه ضعها نصب عينيك؛ لأنها تورثك عبادةً أخرى،
وهي: الرضى عن الله ! والرضى عن الله عبادة جليلة،من فقدها فقد فقد خيراً كثيراً..
قال الأعمش رحمه الله: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11]
فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
[ القاعدة التاسعة ]
كلما اشتدت المحنة فاعلم أنها علامة على قرب الفرج؛ هذه سنة كونية،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)).
ومن تأمل في تعبير يوسف للرؤيا عرف كيف استخدم هذه السنة.
وتأمل - أخي - وتدبر قولَ ربك الذي بيد مفاتيح الفرج:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5، 6]
قال ابن عباس وغيره: "لنْ يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن".
إذا اشتدَّ الحبلُ انقطَعَ, وإذا أظلمَ الليلُ انقشَعَ, وإذا ضاقَ الأمرُ اتَّسَعَ ,وبعدَ الجوع شبَعٌ، وعقب الظمأِ رِيٌّ، وإثر المرض عافيةٌ، والفقرُ يعقبُه الغنى، والهمُّ يتلوه السرورُ، سَنَّةٌ ثابتةٌ.
تدبّرْ سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وتذكرْها عند الشدائدِ، واعلمْ أنها من أعظمِ الأدويةِ عند الأزماتِ، ولن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ.
كمْ فرجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى *** وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْدَ الأسى
من يحسنِ الظنَّ بذي العرشِ جنى *** حُلْوَ الجنَى الرائقَ من شَوْكِ السَّفاً
[ القاعدة العاشرة ]
لا تفكر بكيفية الفرج! فإن الله إذا أراد شيئاً يسّر أسبابه بشكل لا يخطر على البال أحياناً.
[س / هل كان موسى يعرف كيفية الفرج التي أوحي له بها؟!]
[ذكر بعض أهل السيِّرِ:]
فقد ذكروا أن رجلاً أصابه الشللُ، فأُقعد في بيته، ومرتْ عليه سنواتٌ طوالٌ من المللِ واليأسِ والإحباطِ، وعَجَزَ الأطباءُ في علاجِه،
وبلَّغوا أهله وأبناءه، وفي ذات يومٍ نزلتْ عليه عقربٌ من سقفِ منزلِه، ولم يستطعْ أن يتحرك من مكانِه،
فأتتْ إلى رأسِه وضربتْه برأسِها ضرباتٍ ولدغتْه لدغاتٍ،
فاهتزَّ جسمُه من أخمصِ قدميه إلى مشاشِ رأسِه، وإذا بالحياةُ تدبُّ في أعضائِه، وإذا بالبُرءِ والشفاء
يسير في أنحاءِ جسمِه، وينتفضُ الرجلُ ويعودُ نشيطاً، ثم يقفُ على قدميه، ثم يمشي في غرفتِه،
ثم يفتحُ بابه، ويأتي أهله وأطفاله، فإذا الرجلُ واقفاً، فما كانوا يصدِّقون وكادوا من الذهول يُصعقون، فأخبرهم الخَبَرَ.
فسبحان الذي جعل علاج هذا الرجلِ في هذا!
وقد ذُكر هذا لبعضِ الأطباءِ فصدَّق المقولة،
وذكَرَ أن هناك مصْلاً سامّاً يُستخدم بتخفيفٍ كيماويٍّ، ويعالجُ به هؤلاءِ المشلولون.
فجلَّ اللطيفُ في علاه، ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.